المنظومة التكاملية لعلوم القرآن الكريم
الجزء السابع
القراءات والقراء
القراءات: جمع قراءة، مصدر قرأ، والقراءة في الاصطلاح: مذهب يذهب إليه إمام من الأئمة مخالفاً به غيره في النطق بالقرآن الكريم، مع اتفاق الروايات عنه. والقراءات اختلاف في اللهجات، وكيفية النطق، وطرق الأداء فقط، من إدغام وإظهار، وتفخيم وترقيق، وإمالة وإشباع، ومد وقصر، وتشديد وتخفيف وتليين وغير ذلك. نزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فأقرأها الرسول صحابته ومن ثم أخذوا يقرؤون الناس عليها.

وقد وضع العلماء ضوابط للقراءة الصحيحة تتمثل بالآتي:

1. كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديراً
2. ووافقت أحد أوجه اللغة العربية
3. وصح إسنادها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها سواء كانت واردة عن القراء السبعة ـ أو غيرهم.
وكل قراءة اختل منها ركن من هذه الأركان الثلاثة، فهي شاذة ولو كانت لأحد القراء السبعة ولا تصح القراءة بها.

القراء السبعة الذين اشتهروا في الآفاق هم: ( أبو عمرو، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وابن عمرو، وابن كثير ).

فوائد الاختلاف في القراءات الصحيحة

لاختلاف القراءات الصحيحة فوائد منها:

1. التيسير والتسهيل على الأمة، فإن الأمة العربية كانت قبائل وشعوبا ً مختلفة في اللهجات وطريقة الأداء، فلو أمرت كلها بقراءة واحدة لشق ذلك على غير الناطقين بتلك اللهجة.
2. الدلالة على صيانة كتاب الله وحفظه من التبديل والتحريف مع كونه على هذه الأوجه الكثيرة
3. إعجاز القرآن في إيجازه، حيث تدل كل قراءة على حكم شرعي دون تكرر اللفظ كقراءة: ( وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) سورة المائدة: آية 6 بالنصب والخفض في ( أرجلكم ) ففي قراءة النصب بيان لحكم غسل الرجل، حيث يكون العطف على معمول فعل الغسل: ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) وقراءة الجر بيان لحكم المسح على الخفين عند وجود ما يقتضيه، حيث يكون العطف على معمول فعل المسح: ( وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ) فنستفيد الحكمين من غير تطويل، وهذا من معاني الإعجاز في الإيجاز بالقرآن.

الأحرف السبعة غير القراءات

إن حديث الرسول – صلى الله وسلم - ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ) والذي رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يدل على التوسعة والتيسير، وحرف ( على ) في الحديث يدل على هذه التوسعة، أي أنزل القرآن موسعاً فيه على القارئ، بحيث يجوز له أن يقرأه على أي حرف من الأحرف السبعة.
وهذا لا يعني أن كل كلمة من كلمات القرآن، تقرأ على سبعة أوجه وأحرف، ولو كان هذا مراداً لقال: ( أنزل هذا القرآن سبعة أحرف ) إنما يعني أن وجوه الاختلاف لا تتجاوز سبعة أوجه.
والعدد سبعة في الحديث مراد لذاته، فهو حصر حقيقي ولم يرد به التكثير، وهذا يعني أن وجوه الاختلاف والتغاير لا تزيد على سبعة أوجه، مهما تعددت وتنوعت القراءات في الكلمة الواحدة.
قال ابن تيمية –رحمه الله-: لا نزاع بين العلماء المعتبرين، أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القراء السبعة المشهورة.

أ- التعريف:
لغة: الحرف في أصل كلام العرب معناه الطرف والجانب، وحرف السفينة والجبل جانبهما.
واصطلاحاً: الأحرف السبعة: سبعة أوجه فصيحة من اللغات والقراءات أنزل عليها القرآن الكريم.

ب- بيان الأحرف السبعة في الحديث النبوي:

لما كان سبيل معرفة هذا الموضوع هو النقل الثابت الصحيح عن الذي لا ينطق عن الهوى، نقدم ما يوضح المراد من الأحرف السبعة:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقْرِئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكِدت أساوِره في الصلاة ، فتصَّبرت حتى سلّم ، فلَبَّبْتُهُ بردائه، فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ، قال: أقرأنِيْها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: كذبت، أقرانيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تُقرئها، فقال: " أرسله، اقرأ يا هشام"، فقرأ القراءة التي سمعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذلك أنزلت " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اقرأ يا عمر "، فقرأت التي أقرأني. فقال:"كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه ".
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل أستزيده، ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف ".

جـ - الأحرف السبعة والقراءات السبع:

دلتنا النصوص على أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات نزل بها القرآن، ونود أن ننبه بأن الأحرف السبعة ليست هي القراءات السبع المشهورة، التي يظن كثير من عامة الناس أنها الأحرف السبعة. وهو خطأ عظيم ناشىء عن الخلط وعدم التمييز بين الأحرف السبعة والقراءات. وهذه القراءات السبع إنما عرفت واشتهرت في القرن الرابع، على يد الإمام المقرىء ابن مجاهد الذي اجتهد في تأليف كتاب يجمع فيه قراءات بعض الأئمة المبرزين في القراءة، فاتفق له أن جاءت هذه القراءات سبعة موافقة لعدد الأحرف، فلو كانت الأحرف السبعة هي القراءات السبع، لكان معنى ذلك أن يكون فهم أحاديث الأحرف السبعة، بل العمل بها أيضاً متوقفاً حتى يأتي ابن مجاهد ويخرجها للناس …
وقد كثر تنبيه العلماء في مختلف العصور على التفريق بين القراءات السبع والأحرف السبعة، والتحذير من الخلط بينهما.

د- حقيقة الأحرف السبعة:

ذهب بعض العلماء إلى استخراج الأحرف السبعة بإستقراء أوجه الخلاف الواردة في قراءات القرآن كلها صحيحها وسقيمها، ثم تصنيف هذه الأوجه إلى سبعة أصناف، بينما عمد آخرون إلى التماس الأحرف السبعة في لغات العرب ، فَتَكوّن بذلك مذهبان رئيسيان، نذكر نموذجاً عن كل منهما فيما يلي:

المذهب الأول: مذهب استقراء أوجه الخلاف في لغات العرب، وفي القراءات كلها ثم تصنيفها، وقد تعرض هذا المذهب للتنقيح على يد أنصاره الذين تتابعوا عليه، ونكتفي بأهم تنقيح وتصنيف لها فيما نرى، وهو تصنيف الإمام أبي الفضل عبد الرحمن الرازي، حيث قال: … إن كل حرف من الأحرف السبعة المنزلة جنس ذو نوع من الاختلاف.
أحدها: اختلاف أوزان الأسماء من الواحدة،والتثنية، والجموع، والتذكير، والمبالغة. ومن أمثلته: { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [المؤمنون: 8]، وقرئ. { لأَمَانَاتِهِمْ } بالإفراد.
ثانيها: اختلاف تصريف الأفعال وما يسند إليه، نحو الماضي والمستقبل، والأمر ، وأن يسند إلى المذكر والمؤنث، والمتكلم والمخاطب، والفاعل، والمفعول به. ومن أمثلته: { فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [سبأ: 19] بصيغة الدعاء، وقرئ: { رَبَّنَا بَاعَدَ } فعلا ماضيا.
ثالثها: وجوه الإعراب. ومن أمثلته: { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } [البقرة: 282] قرئ بفتح الراء وضمها. وقوله { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } [البروج: 15] برفع { الْمَجِيدُ } وجره.
رابعها: الزيارة والنقص، مثل: { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى } [الليل: 3] قرىء { الذَّكَرَ وَالأُنْثَى }.
خامسها: التقديم والتأخير، مثل،{ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [التوبة: 111] وقرئ: { فَيُقْتَلونَ ويَقْتُلُون } ومثل: { وجاءت سكرة الموت بالحق }، قرئ: {وجاءت سكرة الحق بالموت}.
سادسها: القلب والإبدال في كلمة بأخرى، أو حرف بآخر، مثل: { وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا } [ البقرة: 259] بالزاي، وقرئ: { ننشرها } بالراء.
سابعها: اختلاف اللغات: مثل { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } [النازعات: 15] بالفتح و الإمالة في: { أتى } و { موسى } وغير ذلك من ترقيق وتفخيم وإدغام…
فهذا التأويل مما جمع شواذ القراءات ومشاهيرها ومناسيخها على موافقة الرسم ومخالفته، وكذلك سائر الكلام لا ينفك اختلافه من هذه الأجناس السبعة المتنوعة.

المذهب الثاني: أن المراد بالأحرف السبعة لغات من لغات قبائل العرب الفصيحة.
وذلك لأن المعنى الأصلي للحرف هو اللغة ، فأنزل القرآن على سبع لغات مراعيا ما بينها من الفوارق التي لم يألفها بعض العرب،فأنزل الله القرآن بما يألف ويعرف هؤلاء وهؤلاء من أصحاب اللغات، حتى نزل في القرآن من القراءات ما يسهل على جلّ العرب إن لم يكن كلهم، وبذلك كان القرآن نازلا بلسان قريش والعرب.
فهذان المذهبان أقوى ما قيل، وأرجح ما قيل في بيان المراد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم. غير أنا نرى أن المذهب الثاني أرجح وأقوى.

القراءات السبع:

أ-تعريف القراءة: لغة مصدر لـ: قرأ. واصطلاحا: مذهب يذهب إليه إمام من أئمة القراء، مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها. هذا التعريف يعرف القراءة من حيث نسبتها للأمام المقرئ كما ذكرنا من قبل، أما الأصل في القراءات فهو النقل بالإسناد المتواتر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والمقرئ: هو العالم بالقراءات ، التي رواها مشافهة بالتلقي عن أهلها إلى أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم.

ب-ضابط القراءة المقبولة:

لقد ضبط علماء القراءات القراءة المقبولة بقاعدة مشهورة متفق عليها بينهم ، وهي:
كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت رسم أحد المصاحف ولو احتمالا، وتواتر سندها، فهي القراءة الصحيحة. ويتبين من هذا الضابط ثلاثة شروط هي:

الشرط الأول، موافقة العربية ولو بوجه: ومعنى هذا الشرط أن تكون القراءة موافقة لوجه من وجوه النحو، ولو كان مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله، فلا يصح مثلا الاعتراض على قراءة حمزة. { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ } [النساء: 1] بجر الأرحام.

الشرط الثاني، موافقة خط أحد المصاحف ولو احتمالا: وذلك أن النطق بالكلمة قد يوافق رسم المصحف تحقيقا إذا كان مطابقاً للمكتوب، وقد يوافقه احتمالاً أو تقديراً باعتبار ما عرفنا أن رسم المصحف له أصول خاصة تسمح بقراءته على أكثر من وجه. ومثال ذلك: { ملك يوم الدين } رسمت {ملك} بدون ألف في جميع المصاحف، فمن قرأ: (ملك يوم الدين) بدون ألف فهو موافق للرسم تحقيقياً، ومن قرأ: { مالك } فهو موافق تقديراً، لحذف هذه الألف من الخط اختصاراً .

الشرط الثالث، تواتر السند: وهو أن تعلم القراءة من جهة راويها ومن جهة غيره ممن يبلغ عددهم التواتر في كل طبقة.

جـ- أنواع القراءات حسب أسانيدها : لقد قسم علماء القراءة القراءات بحسب أسانيدها إلى ستة أقسام:

1. الأول: المتواتر: وهو ما نقله جمع غفير لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهى السند، وهذا النوع يشمل القراءات العشر المتواترات (التي سنعددها في المبحث التالي).

2. الثاني: المشهور: وهو ما صح سنده ولم يخالف الرسم ولا اللغة واشتهر عند القراء: فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ، وهذا لا تصح القراءة به، ولا يجوز رده، ولا يحل إنكاره.

3. الثالث: الآحاد: وهو ما صح سنده وخالف الرسم أو العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، وهذا لا يجوز القراءة. مثل ما روى على (( رفارف حضر وعباقري حسان))، والصواب الذي عليه القراءة: { رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76].

4. الرابع: الشاذ: وهو ما لم يصح سنده ولو وافق رسم المصحف والعربية، مثل قراءة : ((مَلَكَ يومَ الدين ))، بصيغة الماضي في ((ملك )) ونصب (( يوم )) مفعولاً.

5. الخامس: الموضوع: وهو المختلق المكذوب.

6. السادس: ما يشبه المدرج من أنواع الحديث، وهو ما زيد في القراءة على وجه التفسير.

وهذه الأنواع الأربعة الأخيرة لا تحل القراءة بها، ويعاقب من قرأ بها على جهة التعبير.

د- القراءات المتواترة وقُرّاؤها:

من الضروري والطبيعي أن يشتهر في كل عصر جماعة من القراء، في كل طبقة من طبقات الأمة، يتفقون في حفظ القرآن، وإتقان ضبط أدائه والتفرغ لتعليمه، من عصر الصحابة، ثم التابعين، وأتباعهم وهكذا. ولقد تجرد قوم للقراءة والأخذ، واعتنوا بضبط القراءة أتم عناية حتى صاروا في ذلك أئمة يقتدى بهم ويرحل إليهم، ويؤخذ عنهم.
فكان بالمدينة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم شيبة بن نصاح، ثم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم.
وكان بمكة: عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس الأعرج، ومحمد بن مُحَيْص. وكان بالكوفة: يحيى بن وثاب، وعاصم بن أبي النَّجود الأسدي، وسليمان الأعمش، ثم حمزة بن حبيب، ثم الكِسائي أبو علي بن حمزة.
وكان بالبصرة: عبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وأبو عمرو بن العلاء، ثم عاصم الجحدري،ثم يعقوب الحضرمي.
وكان بالشام: عبد الله بن عامر، وعطية بن قيس الكلابي، وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر، ثم يحيى بن الحارث الذماري، ثم شريح بن زيد الحضرمي.
ثم جاء الإمام أحمد بن موسى بن العباس المشهور بابن مجاهد المتوفى سنة ( 324هـ ) فأفرد القراءات السبع المعروفة، فدونها في كتابه: " القراءات السبعة" فاحتلت مكانتها في التدوين، وأصبح علمها مفرداً يقصدها طلاب القراءات.
وقد بنى اختياره هذا على شروط عالية جداً، فلم يأخذ إلا عن الإمام الذي اشتهر بالضبط والأمانة، وطول العمر في ملازمة الإقراء، مع الاتفاق على الأخذ منه، والتلقي عنه ،
فكان له من ذلك قراءات هؤلاء السبعة، وهم:

1. عبد الله بن كثير الداري المكي، (45-120 هـ).
2. عبد الله بن عامر اليحصبي الشامي (8-18 هـ).
3. عاصم بن أبي النَّجود الأسدي الكوفي، المتوفى سنة (127هـ).
4. أبو عمرو بن العلاء البصري، (70-154 هـ).
5. حمزة بن حبيب الزيات الكوفي، (8-156 هـ).
6. نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، المتوفى سنة (169هـ).
7. أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي النحوي الكوفي، المتوفى سنة (189هـ).

وقد علمت من مسرد أئمة الأمصار الإسلامية القراء أن القراءات أكثر من ذلك بكثير، لكن ابن مجاهد جمع هذه السبع لشروطه التي راعاها . وقد تابع العلماء البحث لتحديد القراءات المتواترة، حتى استقر الاعتماد العلمي، واشتهر على زيادة ثلاث قراءات أخرى ، أضيفت إلى السبع، فأصبح مجموع المتواتر من القراءات عشر قراءات ، وهذه القراءات الثلاث هي قراءات هؤلاء الأئمة:

8. أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، المتوفى سنة (130هـ).
9. يعقوب بن اسحاق الحضرمي الكوفي، المتوفى سنة (205هـ).
10. خلف بن هشام، المتوفى سنة (229 هـ).

هـ - أهمية الأحرف السبعة والقراءات :

إن الأحرف السبعة والقراءات ظاهرة هامة جاء بها القرآن الكريم من نواح لغوية وعلمية متعددة، نوجز طائفة منها فيما يلي:

1- زيادة فوائد جديدة في تنزيل القرآن: ذلك أن تعدد التلاوة من قراءة إلى أخرى، ومن حرف لآخر قد تفيد معنى جديداً، مع الإيجاز بكون الآية واحدة. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في آية الوضوء: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } [المائدة: 6]، قرىء: {وأرجِلَكم} بالنصب عطفاً على المغسولات السابقة، فأفاد وجوب غسل القدمين في الوضوء، وقرىء بالجر، فقيل: هو جر على المجاورة، وقيل: هو بالجر لإفادة المسح على الخفين، وهو قول جيد.

2- إظهار فضيلة الأمة الإسلامية وقرآنها:
وذلك أن كل كتاب تقدم كتابنا نزوله، فإنما نزل بلسان واحد، وأنزل كتابنا بألسن سبعة بأيها قرأ القارىء كان تالياً لما أنزله الله تعالى.

3- الإعجاز وإثبات الوحي:

فالقرآن الكريم كتاب هداية يحمل دعوتها إلى العالم، وهو كتاب إعجاز يتحدى ببيانه هذا العالم ، فبرهن بمعجزة بيانه عن حقية دعوته، ونزول القرآن بهذه الأحرف والقراءات تأكيد لهذا الإعجاز، والبرهان على أنه وحي السماء لهداية أهل الأرض من أوجه هذه الدلالة:
إن هذه الأحرف والقراءات العديدة يؤيد بعضها بعضاً من غير تناقض في المعاني والدلائل، ولا تناف في الأحكام والأوامر، فلا يخفى ما في إنزال القرآن على سبعة أحرف من عظيم البرهان وواضح الدلالة.
إن نظم القرآن المعجز، والبالغ من الدقة غايتها في اختيار مفرداته وتتابع سردها، وجملة وإحكام ترابطها، وتناغمه الموسيقي المعبر يجري عليه كل ما عرفنا من الأوجه السابقة في الأحرف والقراءات ثم يبقى حيث هو في سماء الإعجاز، لا يعتل بأفواه قارئيه، ولا يختل بآذان سامعيه، منزها أن يطرأ على كلامه الضعف أو الركاكة، أو أن يعرض له خلل أو نشاز. 
 
 
 
المنظومة التكاملية لعلوم القرآن الكريم

الجزء الثامن
الناسخ والمنسوخ

أهمية العلم به: العلم بالنسخ ضروري لفهم القرآن الكريم، ومعرفة الناسخ والمنسوخ في القرآن أمر لا بد منه لحسن تفسيره ومعرفة أحكامه، وعدم الخطأ فيها، فقد يتبنى البعض حكماً استخرجه من آية، وهو لا يعلم أن هذا الحكم منسوخ. قال عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – على رجل يتحدث عن تفسير القرآن في المسجد، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ فقال:لا. قال: أنت أبو من ؟ قال: لقد هلكت وأهلكت، لا تقص في مسجدنا.

1- لغة: الرفع والإزالة والتبديل. يقال: نسخت الشمس الظّل، أي أزالته. ويأتي بمعنى التبديل والتحويل، يشهد له قوله تعالى: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } [النحل: 101].

2- اصطلاحاً:المنسوخ بدليل شرعي متأخر عنه، أي رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فالحكم المرفوع يسمى: المنسوخ، والدليل الرافع يسمى: الناسخ، ويسمى الرفع: النسخ. أي أن الله يرفع الحكم الشرعي، الذي تقرره آية من كتاب الله، ويزيله ويلغيه، وقد يكون هذا بعوض وبدل، وقد لا يكون له عوض وبدل، ويحل محله حكماً شرعياً آخر.والحكم المرفوع يسمى المنسوخ، والحكم البديل يسمى الناسخ. والذي يرفع الأحكام وينسخها هو الله، والمراد بقولهم ( رفع حكم شرعي ) الحكم المنسوخ، والمراد بقولهم ( بدليل شرعي ) الحكم الناسخ. فعملية النسخ على هذا تقضي منسوخاً وهو الحكم الذي كان مقرراً سابقاً، وتقتضي ناسخاً، وهو الدليل اللاحق.

والدليل على وقوع النسخ في القرآن موجود في القرآن نفسه، فمن الآيات التي تشير إلى وقوع النسخ في القرآن قوله تعالى: { ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } سورة البقرة: آية 106. وهذه الآية صريحة في النسخ، تقرر أن الله إذا نسخ آية ورفع حكمها، أو نسأها وأخرها، وأبقى حكمها، فإنه يأتي بحكم خير من الحكم المنسوخ، ويكون خيراً للعباد في التعبد، سواء كان أخف من المنسوخ، أو أثقل منه، أو مساوياً له، أو يأتي الله بحكم مثل الحكم الأول. ونلاحظ أن الأفعال الثلاثة في الآية مسندة إلى الله: ( ننسخ، ننسها، نأت ) أي أن الله هو الذي ينسخ ما شاء من أحكام آياته، ويبقي ما شاء منها، وإذا نسخ بعضها، فهو الذي يأتي بالدليل الناسخ.

شروط النسخ
وضع العلماء شروطا ً لا بد منها لتحقيق النسخ في القرآن من أهمها:

1- أن يكون المنسوخ حكماً شرعياً ثابتاً بالقرآن أو بالسنة.

2- أن يكون الناسخ دليلاً شرعياً، ثابتاً بالقرآن الكريم.

3- أن يكون الناسخ متراخياً عن المنسوخ.

4- أن يكون بين النصين القرآنيين – المنسوخ والناسخ – تعارض حقيقي بحيث لا يمكن الجمع بينهما، في أي صورة من صور الجمع والتوفيق، كالعموم والخصوص.

5- أن يكون المنسوخ مطلقاً غير متعلق بوقت معلوم، فإذا كان في الآية ما يدل على توقيتها، لا يعد انتهاء وقتها نسخاً. فقوله تعالى: { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } سورة البقرة: آية 109. ليس منسوخاً بآيات القتال، لأنه محدد بوقت معين، فالعفو والصفح مستمران إلى أن يأتي الله بأمره، وهو الأمر بالقتال، وعندما أمر الله بالقتال انتهى الأمر بالعفو والصفح.

6- أن لا يكون المنسوخ خبراً، لأنه لا نسخ في الأخبار.

ولقد رفض الإمام السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن مبالغة البعض في القول بالنسخ والإكثار منه، وعدّ معظم الآيات التي قيل بنسخها أنها محكمة، ولم يثبت عنده النسخ إلا في عشرين آية فقط، على خلاف في نسخ بعضها، ولا يصح دعوى النسخ في غيرها. وقد يكون المنسوخ في القرآن، وقد يكون في السنة، وقد يكون الناسخ في القرآن، وقد يكون في السنة. والنسخ الوحيد الذي ثبت في القرآن، هو نسخ الحكم، أي أن الله ينسخ أحكام بعض الآيات بآيات أخرى لاحقة، ويبقي ألفاظ الآيات المنسوخة أحكامها في القرآن، يتلوها المؤمنون، ويتدبرونها، ويتذوقون معانيها.

الحكمة من النسخ

الله عليم حكيم، والحكمة تبدو في كل أفعاله وأحكامه سبحانه وتعالى، والحكمة تعني الصحة والصواب والمصلحة. فالله لا يشرع تشريعاً إلا بمقتضى حكمته، وإلا لمصلحة الأمة، ولهذا كان النسخ في أحكام الشريعة مظهراً من مظاهر حكمة الله، وكان لتحقيق المصلحة للعباد، وتقديم الخير لهم. ومن حكمة النسخ التيسير على المسلمين والمؤمنين ورفع الحرج عنهم، وابتلائهم واختبارهم لإظهار فضلهم، وتربية الأمة بالتدرج في التشريع، كالتدرج في تحريم الخمر.

ولعلنا نضع النقاط التالية كملخص لحكمة النسخ:

1- يحتل النسخ مكانة هامة في تاريخ الأديان، حيث أن النسخ هو السبيل لنقل الإنسان إلى الحالة الأكمل عبر ما يعرف بالتدرج في التشريع، وقد كان الخاتم لكل الشرائع السابقة والمتمم له ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا التشريع بلغت الإنسانية الغاية في كمال التشريع. وتفصيل هذا: أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة، ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دوراً غيره، فالبشر أول عهدهم بالوجود كانوا كالوليد أول عهده بالوجود سذاجة، وبساطة، وضعفاً، وجهالة، ثم اخذوا يتحولون من هذا العهد رويداً رويداً، ومروا في هذا التحول أو مرت عليهم أعراض متبانية، من ضآلة العقل، وعماية الجهل، وطيش الشباب، وغشم القوة على التفاوت في هذا بينهم، اقتضى وجود شرائع مختلفة لهم تبعاً لهذا التفاوت. حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه، وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه، جاء هذا الدين الحنيف ختاماً للأديان ومتمماً للشرائع، وجامعاً لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية و مرونة القواعد، جمعاً وفَّقَ بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد، وأسر، وجماعات، وأمم، وشعوب، وحيوان، ونبات، وجماد، مما جعله بحق ديناً عاماً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

2- من الحكم أيضاً التخفيف والتيسير: مثاله: إن الله تعالى أمر بثبات الواحد من الصَحابَة للعشرة في قوله تعالى: { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } [ الأنفال:65]
ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى :{ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } [الأنفال:66]
فهذا المثال يدل دلالة واضحة على التخفيف والتسير ورفع المشقة، حتى يتذكر المسلم نعمة الله عليه.

3- مراعات مصالح العباد.

4- ابتلاء المكلف واختباره حسب تطور الدعوة وحال الناس.

أقسام النسخ في القرآن الكريم

1- نسخ التلاوة والحكم معاً.: رُوي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن:"عشر رضعات معلومات يحرّمن " فنسخن خمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن". ولا يجوز قراءة منسوخ التلاوة والحكم في الصلاة ولا العمل به، لأنه قد نسخ بالكلية. إلا أن الخمس رضعات منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية.

2- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.: يُعمل بهذا القسم إذا تلقته الأمة بالقبول، لما روي أنه كان في سورة النور: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالاً من الله والله عزيز حكيم "، ولهذا قال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي.

وهذان القسمان:
1- نسخ الحكم والتلاوة
2- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
3- قليل في القرآن الكريم، ونادر أن يوجد فيه مثل هذان القسمان، لأن الله سبحانه أنزل كتابه المجيد ليتعبد الناس بتلاوته، وبتطبيق أحكامه.

3- نسخ الحكم وبقاء التلاوة.: فهذا القسم كثير في القرآن الكريم، وهو في ثلاث وستين سورة. ومثاله:

1- قيام الليل: المنسوخ: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا }[المزمل: 1- 3]. والناسخ: قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } [المزمل ـ من الآية20].. النسخ: وجه النسخ أن وجوب قيام الليل ارتفع بما تيسر، أي لم يَعُدْ واجباً.

2- محاسبة النفس.: المنسوخ: قوله تعالى: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } [البقرة ـ من الآية 284]. والناسخ: قوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [ البقرة ـ من الآية 286 ].. النسخ: وجهه أن المحاسبة على خطرات الأنفس بالآية الأولى رُفعت بالآية التالية.

3- حق التقوى. فالمنسوخ: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران من ـ الآية 102]. والناسخ: قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن ـ من الآية 16]، والنسخ: رفع حق التقوى بالتقوى المستطاعة.

الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة

1- إن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه، والعمل به، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.

2- إن النسخ غالباً يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة ورفع المشقة، حتى يتذكر العبد نعمة الله عليه.

النسخ إلى بدل وإلى غير بدل

1- النسخ إلى بدل مماثل، كنسخ التوجه من بيت المقدس إلى بيت الحرام: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [البقرة ـ من الآية 144].

2- النسخ إلى بدل أثقل، كحبس الزناة في البيوت إلى الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن. ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان.

3- النسخ إلى غير بدل، كنسخ الصدقة بين يدي نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم.

4- النسخ إلى بدل أخف: مر معنا في الأمثلة السابقة ( قيام الليل ).


أنواع النسخ


* النوع الأول : نسخ القرآن بالقرآن، وهو متفق على جوازه ووقوعه.

* النوع الثاني :نسخ القرآن بالسنة وهو قسمان.

1- نسخ القرآن بالنسبة الآحادية، والجمهور على عدم جوازه.

2- نسخ القرآن بالسنة المتواترة.

أ- أجازه الإمام أبو حنيفة ومالك ورواية عن أحمد، واستدلوا بقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } [البقرة: 180] فقد نسخت هذه الآية بالحديث المستفيض، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا وصية لوارث " ولا ناسخ إلا السنة . وغيره من الأدلة .

ب- منعه الإمام الشافعي ورواية أخرى لأحمد، واستدلوا بقوله تعالى: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [البقرة: 106] قالوا: السنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله.

* النوع الثالث : نسخ السنة بالقرآن:
أجازه الجمهور، ومثلوا له بنسخ التوجه إلى بيت المقدس الذي كان ثابتاً بالسنة بالتوجه إلى المسجد الحرام. ونسخ صوم
عاشوراء بصوم رمضان.
 
 
المنظومة التكاملية لعلوم القرآن الكريم

الجزء الثامن
الناسخ والمنسوخ

أهمية العلم به: العلم بالنسخ ضروري لفهم القرآن الكريم، ومعرفة الناسخ والمنسوخ في القرآن أمر لا بد منه لحسن تفسيره ومعرفة أحكامه، وعدم الخطأ فيها، فقد يتبنى البعض حكماً استخرجه من آية، وهو لا يعلم أن هذا الحكم منسوخ. قال عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – على رجل يتحدث عن تفسير القرآن في المسجد، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ فقال:لا. قال: أنت أبو من ؟ قال: لقد هلكت وأهلكت، لا تقص في مسجدنا.

1- لغة: الرفع والإزالة والتبديل. يقال: نسخت الشمس الظّل، أي أزالته. ويأتي بمعنى التبديل والتحويل، يشهد له قوله تعالى: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } [النحل: 101].

2- اصطلاحاً:المنسوخ بدليل شرعي متأخر عنه، أي رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فالحكم المرفوع يسمى: المنسوخ، والدليل الرافع يسمى: الناسخ، ويسمى الرفع: النسخ. أي أن الله يرفع الحكم الشرعي، الذي تقرره آية من كتاب الله، ويزيله ويلغيه، وقد يكون هذا بعوض وبدل، وقد لا يكون له عوض وبدل، ويحل محله حكماً شرعياً آخر.والحكم المرفوع يسمى المنسوخ، والحكم البديل يسمى الناسخ. والذي يرفع الأحكام وينسخها هو الله، والمراد بقولهم ( رفع حكم شرعي ) الحكم المنسوخ، والمراد بقولهم ( بدليل شرعي ) الحكم الناسخ. فعملية النسخ على هذا تقضي منسوخاً وهو الحكم الذي كان مقرراً سابقاً، وتقتضي ناسخاً، وهو الدليل اللاحق.

والدليل على وقوع النسخ في القرآن موجود في القرآن نفسه، فمن الآيات التي تشير إلى وقوع النسخ في القرآن قوله تعالى: { ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } سورة البقرة: آية 106. وهذه الآية صريحة في النسخ، تقرر أن الله إذا نسخ آية ورفع حكمها، أو نسأها وأخرها، وأبقى حكمها، فإنه يأتي بحكم خير من الحكم المنسوخ، ويكون خيراً للعباد في التعبد، سواء كان أخف من المنسوخ، أو أثقل منه، أو مساوياً له، أو يأتي الله بحكم مثل الحكم الأول. ونلاحظ أن الأفعال الثلاثة في الآية مسندة إلى الله: ( ننسخ، ننسها، نأت ) أي أن الله هو الذي ينسخ ما شاء من أحكام آياته، ويبقي ما شاء منها، وإذا نسخ بعضها، فهو الذي يأتي بالدليل الناسخ.

شروط النسخ
وضع العلماء شروطا ً لا بد منها لتحقيق النسخ في القرآن من أهمها:

1- أن يكون المنسوخ حكماً شرعياً ثابتاً بالقرآن أو بالسنة.

2- أن يكون الناسخ دليلاً شرعياً، ثابتاً بالقرآن الكريم.

3- أن يكون الناسخ متراخياً عن المنسوخ.

4- أن يكون بين النصين القرآنيين – المنسوخ والناسخ – تعارض حقيقي بحيث لا يمكن الجمع بينهما، في أي صورة من صور الجمع والتوفيق، كالعموم والخصوص.

5- أن يكون المنسوخ مطلقاً غير متعلق بوقت معلوم، فإذا كان في الآية ما يدل على توقيتها، لا يعد انتهاء وقتها نسخاً. فقوله تعالى: { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } سورة البقرة: آية 109. ليس منسوخاً بآيات القتال، لأنه محدد بوقت معين، فالعفو والصفح مستمران إلى أن يأتي الله بأمره، وهو الأمر بالقتال، وعندما أمر الله بالقتال انتهى الأمر بالعفو والصفح.

6- أن لا يكون المنسوخ خبراً، لأنه لا نسخ في الأخبار.

ولقد رفض الإمام السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن مبالغة البعض في القول بالنسخ والإكثار منه، وعدّ معظم الآيات التي قيل بنسخها أنها محكمة، ولم يثبت عنده النسخ إلا في عشرين آية فقط، على خلاف في نسخ بعضها، ولا يصح دعوى النسخ في غيرها. وقد يكون المنسوخ في القرآن، وقد يكون في السنة، وقد يكون الناسخ في القرآن، وقد يكون في السنة. والنسخ الوحيد الذي ثبت في القرآن، هو نسخ الحكم، أي أن الله ينسخ أحكام بعض الآيات بآيات أخرى لاحقة، ويبقي ألفاظ الآيات المنسوخة أحكامها في القرآن، يتلوها المؤمنون، ويتدبرونها، ويتذوقون معانيها.

الحكمة من النسخ

الله عليم حكيم، والحكمة تبدو في كل أفعاله وأحكامه سبحانه وتعالى، والحكمة تعني الصحة والصواب والمصلحة. فالله لا يشرع تشريعاً إلا بمقتضى حكمته، وإلا لمصلحة الأمة، ولهذا كان النسخ في أحكام الشريعة مظهراً من مظاهر حكمة الله، وكان لتحقيق المصلحة للعباد، وتقديم الخير لهم. ومن حكمة النسخ التيسير على المسلمين والمؤمنين ورفع الحرج عنهم، وابتلائهم واختبارهم لإظهار فضلهم، وتربية الأمة بالتدرج في التشريع، كالتدرج في تحريم الخمر.

ولعلنا نضع النقاط التالية كملخص لحكمة النسخ:

1- يحتل النسخ مكانة هامة في تاريخ الأديان، حيث أن النسخ هو السبيل لنقل الإنسان إلى الحالة الأكمل عبر ما يعرف بالتدرج في التشريع، وقد كان الخاتم لكل الشرائع السابقة والمتمم له ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا التشريع بلغت الإنسانية الغاية في كمال التشريع. وتفصيل هذا: أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة، ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دوراً غيره، فالبشر أول عهدهم بالوجود كانوا كالوليد أول عهده بالوجود سذاجة، وبساطة، وضعفاً، وجهالة، ثم اخذوا يتحولون من هذا العهد رويداً رويداً، ومروا في هذا التحول أو مرت عليهم أعراض متبانية، من ضآلة العقل، وعماية الجهل، وطيش الشباب، وغشم القوة على التفاوت في هذا بينهم، اقتضى وجود شرائع مختلفة لهم تبعاً لهذا التفاوت. حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه، وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه، جاء هذا الدين الحنيف ختاماً للأديان ومتمماً للشرائع، وجامعاً لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية و مرونة القواعد، جمعاً وفَّقَ بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد، وأسر، وجماعات، وأمم، وشعوب، وحيوان، ونبات، وجماد، مما جعله بحق ديناً عاماً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

2- من الحكم أيضاً التخفيف والتيسير: مثاله: إن الله تعالى أمر بثبات الواحد من الصَحابَة للعشرة في قوله تعالى: { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } [ الأنفال:65]
ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى :{ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } [الأنفال:66]
فهذا المثال يدل دلالة واضحة على التخفيف والتسير ورفع المشقة، حتى يتذكر المسلم نعمة الله عليه.

3- مراعات مصالح العباد.

4- ابتلاء المكلف واختباره حسب تطور الدعوة وحال الناس.

أقسام النسخ في القرآن الكريم

1- نسخ التلاوة والحكم معاً.: رُوي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن:"عشر رضعات معلومات يحرّمن " فنسخن خمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن". ولا يجوز قراءة منسوخ التلاوة والحكم في الصلاة ولا العمل به، لأنه قد نسخ بالكلية. إلا أن الخمس رضعات منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية.

2- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.: يُعمل بهذا القسم إذا تلقته الأمة بالقبول، لما روي أنه كان في سورة النور: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالاً من الله والله عزيز حكيم "، ولهذا قال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي.

وهذان القسمان:
1- نسخ الحكم والتلاوة
2- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
3- قليل في القرآن الكريم، ونادر أن يوجد فيه مثل هذان القسمان، لأن الله سبحانه أنزل كتابه المجيد ليتعبد الناس بتلاوته، وبتطبيق أحكامه.

3- نسخ الحكم وبقاء التلاوة.: فهذا القسم كثير في القرآن الكريم، وهو في ثلاث وستين سورة. ومثاله:

1- قيام الليل: المنسوخ: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا }[المزمل: 1- 3]. والناسخ: قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } [المزمل ـ من الآية20].. النسخ: وجه النسخ أن وجوب قيام الليل ارتفع بما تيسر، أي لم يَعُدْ واجباً.

2- محاسبة النفس.: المنسوخ: قوله تعالى: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } [البقرة ـ من الآية 284]. والناسخ: قوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [ البقرة ـ من الآية 286 ].. النسخ: وجهه أن المحاسبة على خطرات الأنفس بالآية الأولى رُفعت بالآية التالية.

3- حق التقوى. فالمنسوخ: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران من ـ الآية 102]. والناسخ: قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن ـ من الآية 16]، والنسخ: رفع حق التقوى بالتقوى المستطاعة.

الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة

1- إن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه، والعمل به، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.

2- إن النسخ غالباً يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة ورفع المشقة، حتى يتذكر العبد نعمة الله عليه.

النسخ إلى بدل وإلى غير بدل

1- النسخ إلى بدل مماثل، كنسخ التوجه من بيت المقدس إلى بيت الحرام: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [البقرة ـ من الآية 144].

2- النسخ إلى بدل أثقل، كحبس الزناة في البيوت إلى الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن. ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان.

3- النسخ إلى غير بدل، كنسخ الصدقة بين يدي نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم.

4- النسخ إلى بدل أخف: مر معنا في الأمثلة السابقة ( قيام الليل ).


أنواع النسخ


* النوع الأول : نسخ القرآن بالقرآن، وهو متفق على جوازه ووقوعه.

* النوع الثاني :نسخ القرآن بالسنة وهو قسمان.

1- نسخ القرآن بالنسبة الآحادية، والجمهور على عدم جوازه.

2- نسخ القرآن بالسنة المتواترة.

أ- أجازه الإمام أبو حنيفة ومالك ورواية عن أحمد، واستدلوا بقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } [البقرة: 180] فقد نسخت هذه الآية بالحديث المستفيض، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا وصية لوارث " ولا ناسخ إلا السنة . وغيره من الأدلة .

ب- منعه الإمام الشافعي ورواية أخرى لأحمد، واستدلوا بقوله تعالى: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [البقرة: 106] قالوا: السنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله.

* النوع الثالث : نسخ السنة بالقرآن:
أجازه الجمهور، ومثلوا له بنسخ التوجه إلى بيت المقدس الذي كان ثابتاً بالسنة بالتوجه إلى المسجد الحرام. ونسخ صوم
عاشوراء بصوم رمضان.

0 التعليقات:

إرسال تعليق